فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (6):

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}
{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} عداوة عامة قديمة لا تكاد تزول، ويشعر بذلك الجملة الاسمية و{لَكُمْ} وتقديمه للاهتمام {فاتخذوه عَدُوًّا} خالفتكم إياه في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى إتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس إلا توريطهم وإلقاءهم في العذاب المخلد من حيث لا يشعرون فاللام ليست للعاقبة. وزعم ابن عطية أنها لها.

.تفسير الآية رقم (7):

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان واتباعهم لخطواته، ولعل تنكير {عَذَابِ} لتعظيمه بحسب المدة فكأنه قيل: لهم عذاب دائم شديد {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لا غاية لهما بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح، و{الذين كَفَرُواْ} مبتدأ خبره {لَهُمْ عَذَابَ} وكذا {الذين كَفَرُواْ وَلَهُمْ مَغْفِرَةٍ} إلخ، وجوز بعضهم كون {الذين كَفَرُواْ} في موضع خفض بدلًا من {أصحاب السعير} أو صفة له أو في موضع نصب بدلًا من {حِزْبَهُ} أو صفة له أو في موضع رفع بدلًا من ضمير {لّيَكُونُواْ} والكل مفوت لجزالة التركيب كما لا يخفى على الأريب.

.تفسير الآية رقم (8):

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بما يَصْنَعُونَ (8)}
{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} أي حسن له عمله السيء {فَرَءاهُ} فاعتقده بسبب التزيين {حَسَنًا} فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، و{مِنْ} موصولة في موضع رفع على الابتداء والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف والفاء للتفريع والهمزة للإنكار فإن كانت مقدمة من تأخير كما هو رأي سيبويه والجمهور في نظير ذلك فالمراد تفريع إنكار ما بعدها على ما قبلها من الحكمين السابقين أي إذا كانت عاقبة كل من الفريقين ما ذكر فليس الذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنًا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الايمان والعمل الصالح وإن كانت في محلها الأصلي وكان العطف على مقدر تكون هي داخلة إليه كما ذهب إليه جمع فالمراد ما في حيزها ويكون التقدير أهما أي الذين كفروا والذين آمنوا وعملوا الصالحات متساويان فالذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنًا وانهمك فيه كمن استقحبه واجتنبه واختار الايمان والعمل الصالح أي ما هما متساويان ليكون الذي زين له الكفر كمن استقبحه، وحذف هذا الخبر لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم الجليل إياه، وقد صرح بالجزأين في نظير الآية الكريمة من قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} [محمد: 41] وقوله سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] وقوله عز وجل: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وجعلناه *لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] وفي التعبير عن الكافر بمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا إشارة إلى غاية ضلاله حتى كأنه غلب على عقله وسلب تمييزه فشأن المغلوب على عقله ذلك كما يشير إليه قول أبي نواس:
اسقني حتى تراني ** حسنًا عندي القبيح

وظاهر كلام الزجاج أن من شرطية حيث قال: الجواب على ضربين، أحدهما: ما يدل عليه قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ} إلخ ويكون المعنى أفمن زيد له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرة، وثانيهما: ما يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنَّ الله} إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله تعالى، وإلى ذلك ذهب ابن مالك أيضًا. واعترض ابن هشام على التقدير الثاني بأن الظرف لا يكون جوابًا وإن قلنا إنه جملة، ووجه أن الرضى صرح بأنه لا يكون مستقرًا في غير الخبر والصفة والصلة والحال ولم يذكر الجواب لا أن دخل لعدم الفاء، وتقديرها داخلة على مبتدأ يكون الظرف خبره والجملة بتمامها جزاء غير جائز لما فيه من التكلف كما قيل.
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون الزجاج قد ذهب إلى أن من موصولة وأطلق على خبرها الجواب لشبهه به في المعنى ألا تراهم يدخلون الفاء في خبر الموصول الذي صلته جملة فعلية كما يدخلونها في جواب الشرط فيقولون الذي يأتيني فله درهم، وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية، وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه، ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنًا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين، وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} [فاطر: 6] لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه، وقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} تعليلًا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنًا، وفيه دفع استبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنًا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك شيئة عز وجل التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سء عملهم فرأوه حسنًا ممن شاء الله تعالى ضلالهم، وقوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك إلخ، وذكر المولى سعدى جلبي أن الهمزة في {أَفَمَنِ} على التقدير الأول من التقديرين الذين نقلًا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه صلى الله عليه وسلم عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه: {فَإِنَّ الله} إلخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر، وفي الكشاف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا} يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لا فقال تعالى: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} ويفهم من كلام الطيبي أن فاء {فَلاَ تَذْهَبْ} جزائية وفاء {فَإِنَّ الله} للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة والسلام على سبيل الإنكار لذلك: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلابد أن يقر صلى الله عليه وسلم بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإاذ كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر انتهى وفيه نظر، وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري لف ونشر وبذلك صرح الطيبي قال قال: الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى: {الامور يأَيُّهَا الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} جمع الفريقين معًا في حكم نداء الناس وجمع مالهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معًا عن الغرور بالدنيا والشيطان، وأما التقسيم فهو قوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر: 7] وأما التفريق فقوله تعالى: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له، وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في {أَفَمَنِ} للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه الله تعالى فحذف لدلالة {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير والعربية، ولعل فيما ذكرناه مقنعًا لمن أوتي ذهنًا سليمًا وفهمًا مستقيمًا.
والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه ما حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، وانتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات، والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه الصلاة والسلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر، و{عَلَيْهِمْ} صلة {تَذْهَبْ} كما يقال هلك عليه حبًا ومات عليه حزنًا أو هو بيان للمتحسر عليه فيكون ظرفًا مستقرًا ومتعلقه مقدر كأنه قيل: على من تذهب؟ فقيل: عليهم، وجوز أن يتعلق بحسرات بناء على أنه يغتفر تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفًا وهو الذي اختاره والزمخشري لا يجوز ذلك، وجوز أن يكون حسرات حالًا من {نَّفْسَكَ} كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السري ** حتى ذهبن كلاكلا وصدورًا

يريد رجعن كلاكلا وصدورًا أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها، وهو الذي ذهب إليه سيبويه في البيت، وقال المبرد: كلاكلا وصدورًا تمييز محول عن الفاعل أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها، ومن هذا قوله:
فعلى أثرهم تساقط نفسي ** حسرات وذكرهم لي سقام

وفيه مبالغات ثلاث، وقرأ عبيد بن عمير {زُيّنَ} مبنيًا للفاعل، ونصب {سوأ} وعنه أيضًا {عَنْهُمْ أَسْوَأَ} على ومن أفعل وأريد بأسوأ عمله الشرك، وقرأ طلحة {مِن} بغير فاء قال صاحب اللوامح: فالهمزة للاستخبار والتقرير ويجوز أن تكون للنداء وحذف ما نودي لأجله أي تفكر وارجع إلى الله فإن الله إلخ، والظاهر أنها للإنكار كما في قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر. وقتادة. وعيسى. والأشهب وشيبة. وأبو حيوة. وحميد. والأعمش. وابن محيصن {تَذْهَبْ} من أذهب مسندًا إلى ضمير المخاطب {نَّفْسَكَ} بالنصب على المفعولية ورويت عن نافع.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بما يَصْنَعُونَ} في موضع التعليل لما قبله وفيه وعيد للكفرة أي أنه تعالى عليم بما يصنعونه من القبائح فيجازيهم عليه، والآيات من قوله تعالى: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} إلى هنا نزلت على ما روي عن ابن عباس في أبي جهل ومشركي مكة، وأخرج جويبر عن الضحاك أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل حيث هدى الله تعالى عمر وأضل أبا جهل.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}
{والله الذي أَرْسَلَ الرياح} مبتدأ وخبر، وقرأ حمزة. والكسائي. وابن كثير {الريح} وصيغة المضارع في قوله تعالى: {أَقَلَّتْ سَحَابًا} لحكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وكثيرًا ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تميز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك، ومنه قول تأبط شرا:
ألا من مبلغ فتيان فهم ** بما لاقيت عند رحى بطان

بأني قد رأيت الغول تهوى ** بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها كلانا نضو أرض ** أخوسفر فخلى لي مكاني

فشدت شدة نحوي فأهوت ** لها كفي بمصقول يماني

فأضربها بلا دهش فخرت ** صريعًا لليدين وللجران

ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلًا بالنسبة إلى الإرسال، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك، وقال الإمام: اختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عز وجل: {كُنَّ} فلا يبقى في العدم زمانًا ولا جزء زمان جيء بلفظ الماضي دون المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه: {تُثِيرُ} بلفظ المستقبل اه.
وأورد عليه قوله تعالى: في سورة الروم [الروم: 48] {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَابًا} وفي سورة الأعراف [الأعراف: 57] {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} حيث جيء في الإرسال فيها بالمضارع فتأمل.
{فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ} قطعة من الأرض لا نبات فيها. وقرئ {مَّيّتٍ} بالتخفيف وهما عنى واحد في المشهور.
وفي كليات أبي البقاء الكفوي الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد، وأنشد:
ومن يك ذا روح فذلك ميت ** وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

والمعول عليه هو المشهور {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض} أي بالمطر النازل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازمًا في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب وإحياء الأرض إِنبات الشجر والكلأ فيها {بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها وخلوها عن ذلك، وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن الاختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى: {كَذَلِكَ النشور} في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية، وقال الإمام عليه الرحمة: أسند {أُرْسِلَ} إلى الغائب وساق {وأحيى} إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى: أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفًا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرًا بالنعمة فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والإحياء، وهو كما ترى.
وقال سبحانه: فأحيينا به الأرض دون فأحييناه أي البلد الميت به تعليقًا للإحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض ولأن ذلك أوفق بأمر البعث، وقال تعالى: {الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} مع أن الأحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوى أمر التشبيه فليتأمل.
والنشور على ما في البحر مصدر نشر الميت إذا حي قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ** يا عجبًا للميت الناشر

وفي نهاية ابن الأثير يقال نشر الميت ينشر نشورًا إذا عاش بعد الموت وأنشره الله تعالى أحياه، وقال الراغب: قيل نشر الله تعالى الميت وأنشره عنى والحقيقة أن نشر الله تعالى الميت مستعار من نشر الثوب أي بسطه كما قال الشاعر:
طوتك خطوب دهرك بعد نشر ** كذاك خطوبه طيًا ونشرًا

والمراد بالنشور هنا إحياء الأموات في يوم الحساب وهو مبتدأ والجار والمجرور قبله في موضع الخبر وقيل الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات يوم القيامة في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلًا سوى الألف في الأول دون الثاني، وقال أبو حيان: وقع التشبيه بجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب كذلك يجمع الله تعالى أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى أو كما يسوق سبحانه السحاب إلى البلد الميت يسوق عز وجل الروح والحياة إلى البدن، وقال بعضهم: التشبيه باعتبار الكيفية.
فقد أخرج ابن جرير. وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلا من شاء الله تعالى إلا مات ثم يرسل الله تعالى من تحت العرش ماء كمني الرجال فتنبت أجسامهم من ذلك الماء وقرأ الآية ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها، وفي حديث مسلم مرفوعًا ينزل الله تعالى مطرًا كأنه الطل فينبت أجساد الناس.
ونبات الأجساد من عجب الذنب على ما ورد في الآثار وقد جاء أنه لا يبلى وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، وقال أبو زيد الوقواقي: هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغير، ولا حاجة إلى التزام أنه جوهر فرد، ووراء ذلك أقوال عجيبة في هذا العجب فقيل هو العقل الهيولاني، وقيل بل الهيولى، وعن الغزالي إنما هو النفس وعليها تنشأ النشأة الآخرة، وعن الشيخ الأكبر أنه العين الثابت من الإنسان، وعن بعض المتكلمين أنه الأجزاء الأصلية، وقال الملا صدرا الشيرازي في أسفاره: هو عندنا القوة الخيالية لأنها آخر الأكوان الحاصلة في الإنسان من القوى الطبيعية والحيوانية والنباتية المتعاقبة في الحدوث للمادة الإنسانية في هذا العالم وهي أول الأكوان الحاصلة في النشأة الآخرة ثم بين ذلك بما بين وأنه لأضعف من بيت العنكبوت وأوهن. والمعول عليه ما يوافق فهم أهل اللسان، وأي حاجة إلى التأويل بعد التصديق بقدرة الملك الديان جل شأنه وعظم سلطانه.